عادت من مدرستها تحمل حقيبة كتبها على ظهرها خصلات شعرها تتطاير على وجهها الطفولي البريء تركض مسرعة نحو والدتها لتقبلها اقتربت منها فوجدتها حزينة ودموعها على خديها تبكي بحرقة تكاد الدموع تحفر وجنتيه ترتدي ثوباً أسود نظرت إلى أمها نظرة استغراب ودهشة فهي لم تراها بهذا الحال من قبل. لكنها قبلتها ثم قال لها والدها اذهبي بنيتي لكي تغيري ثيابك ذهبت لتغير زي المدرسة وسألت أختها التي تكبرها بسنتين "ما بها أمي لماذا ترتدي ثوباً أسود وتبكي هكذا؟؟!!" قالت لها: ( لا أعرف أنا أيضاً مستغربة من حال أمي) أتت إليهم جارتهم فهي كانت كأم حقيقية لهم، وضعت لهم طعام الغداء ثم ذهبت وجلست بجانب والدتهم، تناول الأبناء الطعام وهم في غاية الألم لحال أمهم، سألوا "ما بها والدتنا؟ لماذا تبكي بشدة هكذا؟!" ردت عليهم قائلة: هناك صديقة لها ماتت. ذهبت الأختان وهما حزينتان لحال أمهما، قالت الصغيرة لأختها: "مسكينة ماما لو كنت أعرف صاحبتها دي كنت عيطت معاها بس أنا مش عارفاها" قالت أختها الكبرى" وأنا أيضاً، ثم ذهبتا تلعبان في فناء المنزل ظلتا هكذا طوال اليوم أمها تبكي والناس تأتي لتواسيها وجارتهم تستقبلهم ووالدها يخيم عليه الحزن، لم تكن الطفلتان تعرفان أن هذا عزاءً فهما لم يروا هذه الطقوس من قبل، جاء وقت صلاة العشاء رحل النساء من عند والدتها وكان عند والدها رجال وشيخ يقرأ القرآن بصوت عذب جميل رحل الجميع وبقيت جارتهم مع أمهم، جلست البنتان عند والدهما يلحون عليه من هذه صديقة أمهم التي ماتت؟؟ قال لهم " وحدة اسمها منى" استغربتا فهذه أول مرة تسمعان عن صديقة لأمهم اسمها "منى" ولكنهما لم تسكتا "من هذه منى يا أبي من هذه؟؟" لم يرد عليهم، ذهبت الصغيرة لتلعب بالخارج وظلت الكبرى مع والدها أخبر الوالد ابنته الكبرى من هي "منى" التي ماتت، دخلت الصغيرة عليهم فوجدت أختها تواري دمعاتها فتساءلت أبي ماذا هناك؟ لماذا تبكي أختي؟.... قالا لها: سنخبرك ولكن عدينا بأن لا تبكي قالت: أخبروني ماذا هناك؟ قالا: أتعديننا أن لا تنزلي ولو دمعة واحدة؟؟، قالت: "أوعدك يا بابا مش هعيط خالص"، قال لها أمكِ تبكي وترتدي السواد لأن "منى" التي ماتت هي خالتك، عندما سمعت الطفلة كلمات والدها أجهشت بالبكاء ولم تستطع أن تسكت، قال لها والدها أنتي قد وعدتني بأن لا تبكي، قالت : نعم ولكن لا أستطيع أن اسكت، أخذت الأخت الكبرى أختها في حضنها وظلتا تبكيان معاً بكاءً يقطع القلوب، فقد كانت خالتهم تلك تحبهم حباً جما وتحن عليهم كأنها والدتهم لا تذهب إلى مكان إلا وتأخذهما معها وتشتي لهما كل ما تشتهيان، بقيت الطفلتان تبكيان هكذا إلى أن جاءت جارتهم وأخذتهم إلى منزلها عند ابنتها التي هي بمثابة أختٍ لهم، بدأت تلعب معهم حتى تنسيا حزنهما ولكن هيهات...، دقت الساعة معلنةً انتصاف الليل عادت الطفلتان إلى منزلهما الذي يخيم على أجواءه الحزن والبكاء، ونامتا ليلة من أصعب ليالي حياتهما.
كانت هذه حكايتي أنا وأختي الكبرى عندما سمعنا خبر وفاة خالتنا، كنت أنا أبلغ من العمر سبع سنوات وأختي تسع سنوات.
رحمك الله خالتي الحبيبة وجعل قبرك روضة من رياض الجنة وجمعنا بك في الفردوس مع النبيين والصديقين والشهداء.. اللهم آمين.